JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

الباحثة هيبة مسعودي تكتب: الشذرة الأولى في الموت الوبائي

 

الشذرة الأولى في الموت الوبائي

بقلم: هيبة مسعودي

الشذرة الأولى في الموت الوبائي


مثّلت فكرة الموت هاجسا مؤرقا للإنسان، فحاول بعض تدّبر أمره فكريّا، كالفلاسفة[1]، وبعض ارتأى أن يبحث عن منفذ روحاني-ديني يجد في فكرة الحياة بعد الموت خلاصا من فزع النهاية وإنسداد الأفق نحو سّعة الخلود دون أن ننسى رؤية العلم الصارمة، غير أنّنا نستعيد هذه الفكرة اليوم في ظرف مغاير، فما الذي يعنيه أن نفكر في الموت اليوم؟ وليس أيّ موت، إنّه التفكير في الموت زمن الوباء الكوني؟ وأيّ صنف من الموت يعنينا نحن اليوم، مادمنا على يقين، أنّ موت الأمس لن يكون شبيها بخاصتنا الآن، أو بما آلفناه من حالة الكفّ والانقطاع عن الحياة؟.

هذه الأسئلة تراود فكر الإنسان المعاصر على نفسه، في لحظة تاريخيّة حاسمة من تاريخ الجنس البشري، من خلالها نسائل أنفسنا عن حجم الإرباك الذي يُحدثه مثل هذا الوباء _ فيروس كورونا_ في أنفسنا بعدما صارت النفس مغتربة عن نفسها، وفي علاقاتنا بالتّدرج من الأكثر كونيّة إلى الأكثر حميميّة. إرباك تسلل إلينا من حيث لا نحتسب من شاشات التلفاز وتزاحم الأرقام والبيانات المحذرة، على شكل صدمة choc تعطّلت معها كل القوى الحيويّة، ثّم ماذا بعد؟ لنعيد ترتيب أبجديات الوجود حتى في شكل مساءلات ربّما تنفع لشيء ما، ربّما في شكل تأريخ للكارثة أو شهادة على النهاية الأبوكاليبسية. إنّ التنضيد الفكري آخر ما نمتلكه زمن الحجر سواء كان ذاتيا أو قصريا في شكل من التمسّك بالأمل وإعادة البحث عن الذات أو ما تبقى منها في زمن الحرب الفيروسية .

قد يُصاب البعض بالهلع من الموت. هلع تحدثه إمكانيّة تعطّل الوظائف الحيويّة، مرّة واحدة، أو تعطّل عضو رئيس وربّما الهلع لا يتأتى من الكّف الفيزيولوجي في حدّ ذاته، بل من التفكير في النهاية. لا يملك الإنسان طاقة لتخيّل نهايته الخاصة، لأنّ طبيعة ملكات الإنسانية مسكونة بالحريّة. فلا يمكن تصوّر تعطّل الإقتدار على الأمل ونهاية أفق المستقبل. لا يمكن للإنسان المسكون بالأمل والخيال في آن أنّ يستسلم إلى اللاوجود أو الدرجة الصفر في سلم اللاحياة، لا تبرير منطقيّا لدينا حيال رفض النهاية وإعتناق التواصل والإستمرارية. فحتى العبث في حدّ ذاته نستحضره في شكل تهاو متواصل كما ارتسم في أسطورة سيزيف، يحمل البطل على ظهره صخرة إلى أعلى الجبل، فتتدحرج من جديد، يعيد الكرّة مرّات ومرّات دون أن يتّوقف.

يبدو الأمر عبثيا، لكن حتى العبث متواصل. إن الفكر البشري لا يمكنه تقبل لا الركود ولا النهاية منذ ردح غير يسير من الزمن أين علمنا إستحالة الإستحمام في النهر مرتيْن مع هيرقليدس.إن الإنسان لا يستسلم إلى النهاية لسبب بسيط  لأنها تراجيدية بشكل ما، وهو الكائن الذي تعوّد أن ينثر رماد الشديد السواد كسماد تنبت به حياة أخرى.إنّه كائن الأمل. لكن هذا لا ينفي حقيقة لا يمكن درؤها حتى في التحام كل هامات الأمل، كل النهايات مربكة بشكل ما، إرباك ملتحم بشيء من الوجع. ذاك الوجع المتقاسم بين الوضع والاحتضار.

بيد أنّ  التفكير في الموت اليوم، ههنا في هذه الآونة بالذات شيء مختلف، يزّج بنا في ذخم أفكار مضطربة، ربّما من هول الصدمة، أو ربّما من فرط تحقّق ديمقراطيّة كونيّة ونحن لا نكفّ عن النعيق حولها. إنّها ديمقراطية مخالفة، ديمقراطيّة شروط إمكان الموت الكوني أو النهاية الكونيّة. فهل نحن حقا نجابه نهاية بهذا الهول؟.

نهاية العالم فكرة خيّمت على ثقافة إنسان القرن العشرين، تصورات متباينة من غزو فضائي وإنهيار الكون، والكوارث الطبيعيّة: كُلّ يشكل النهاية وفق الوجه الذي يشتهيه. وقد تكاثرت الإصدارات في هذا الشأن بين متحدّث عن الإنسان الأخير والتاريخ المنتهي[2] ونهاية الحداثة[3] وصولا إلى فلسفة الإله الأخير[4].... لكن أن تشاهد فيلما أو تطالع كتابا يسرد لك سيناريو نهاية العالم ويصوّر لك إستطيقا الكارثة بطريقة مثيرة يحرمك من ديمقراطية التجربة لأنّك ذاك المتفرج من وراء شاشة أو قارئ يرّكب في خياله صورا. هذا التغريب وفق عبارة براشت يغرّر بك  أن تكون في ذلك الفيلم أو ضمن شخصيات الكتاب بطلا يوقف السير نحو اللاحياة. أمّا في هذه الحالة كل منّا منخرط في ديمقراطية وبائية. وحدها الأوبئة تنقذك من الديمقراطيات المشوّهة على هذا النحو يغدو الفيدوس أعدل الأشياء قسمة بينا. يبدو أن العدل الذي تمنّع البعض عن ممارسته طوعا، سيفرض عليه إلزاما. إنّها فكرة موجعة بشكل رهيب لكنّها منصفة للذين تمنوا الإنصاف حتى في توزيع الشرّ.

فكيف سيكون الموت في الوباء؟ أهو ضرب من الديمقراطية حتى في النهايات؟ كيف يكون الموت الكوني؟.



 

1ابيكتاتوس أحد أتباع الرواقية الذي يدعو إلى عدم الحزن والخوف من الموت بل على الإنسان أن يغادر بكل لطف وهدوء فكان بذلك اول من فكر في مسالة الموت.

[2]انظر كتاب الفيلسوف الامريكي فوكوياما(فرانسيس) ،نهاية التاريخ والإنسان الأخير، كتاب نشر بالانجليزية سنة 1992 ليعيد في طياته التفكير في مفهوم نهاية التاريخ الذي استقاه من الفلسفة الهيغلية. فقد خلّص التاريخ من المسار الدوري العشوائي. معتبرا أنّ الديمقراطية الليبرالية لا تمثّل إلا المرحلة الأخيرة والنهائية من التطوّر الإيديولوجي دون أنّ يؤكد أنّ فكرة نهاية التاريخ تعني توقف الوجود ونهاية العالم. لمزيد الإطلاع انظر:

_ فوكوياما(فرانسيس)، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فؤاد شاهين، جميل قاسم، رضا الشايبي، بيروت مركز الانماء القومي، 1993.

[3]  انظر كتاب الفيلسوف الايطالي:

 - جياني (فاتيمو)، نهاية الحداثة، ترجمة نجم بوفاضل، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2014.

[4]  المسكيني (فتحي)، نقد العقل التأويلي أو فلسفة الإله الأخير، بيروت، مركز الإنماء القومي، 2005.

 

الاسمبريد إلكترونيرسالة